فصل: تفسير الآية رقم (87):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال: من أنت؟ قلت: مملوك، فحدثته بحديثي وحديث الرجل الذي كنت معه وما أمرني به، قال: لمن أنت؟ قلت: لامرأة من الأنصار جعلتني في حائط لها.
قال: يا أبا بكر، قال: لبيك... قال: اشتره. قال: فاشتراني أبو بكر فاعتقني، فلبثت ما شاء الله أن ألبث، ثم أتيته فسلمت عليه وقعدت بين يديه، فقلت: يا رسول الله، ما تقول في دين النصارى؟ قال: لا خير فيهم ولا في دينهم، فدخلني أمر عظيم فقلت في نفسي: هذا الذي كنت معه ورأيت منه ما رأيت، أخذ بيد المقعد فأقامه الله على يديه، لا خير في هؤلاء ولا في دينهم، فانصرفت وفي نفسي ما شاء الله، فأنزل الله بعد على النبي صلى الله عليه وسلم {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون} إلى آخر الآية.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم عليَّ بسلمان، فأتاني الرسول فدعاني وأنا خائف، فجئت حتى قعدت بين يديه، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون} إلى آخر الآية. فقال: يا سلمان، أولئك الذين كنت معهم وصاحبك لم يكونوا نصارى إنما كانوا مسلمين، فقلت: يا رسول الله، فوالذي بعثك بالحق لقد أمرني باتباعك. فقلت له: وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه، فأتركه؟ قال: نعم، فاتركه فإن الحق وما يحب الله فيما يأمرك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {قسيسين} قال: علماؤهم.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: القسيسون. عبادهم.
وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق قال: سألت الزهري عن هذه الآية {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون} وقوله: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا} [الفرقان: 63] قال: ما زلت أسمع علماءنا يقولون: نزلت في النجاشي وأصحابه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله: {فاكتبنا مع الشاهدين} قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ: قال: يعنون بالشاهدين محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته، أنهم قد شهدوا له أنه قد بلِّغ، وشهدوا للمرسلين أنهم قد بلغوا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: {ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين} قال: القوم الصالحون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم. اهـ.

.التفسير الإشاري:

.قال نظام الدين النيسابوري:

التأويل: لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل مع ذرات ذرّيات آدم عليه السلام {وأرسلنا إليهم رسلًا} بالأجساد في عالم الشهادة، ومن الواردات الروحانية في عالم الغيب {فريقًا كذبوا} يعني الإلهامات والواردات {وفريقًا} يقتلون في عالم الحس {لقد كفر الذين قالوا} النصارى أرادوا أن يسلكوا طريق الحق بقدم العقل فتاهوا في أودية الشبهات، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم سلكوا الطريق بأقدام جذبات الأولوهية على وفق المتابعة الجبيبية فأسقط عنهم براهين الوصال كلفة الاستدلال، ولهذا كان الشبلي يغسل كتبه بالماء ويقول: نعم الدليل أنت. ولكن الاشتغال بالدليل بعد الوصول الى المدلول محال فتحقق لهم أن عيسى بعد التزكية والتحلية صار قابلًا للفيض الإلهي فكان يخلق ما يخلق ويفعل ما يفعل بإذن الله، كما أن المرايا المحرقة تحرق بما قبلت من فيض الشمس {إنه من يشرك بالله} ظاهرًا {فقد حرم الله عليه الجنة} ومن يشرك به باطنًا حرم عليه القربة على لسان داود وعيسى ابن مريم. هذا سر الخلافة فإن الأنسان الكامل المستحق للخلافة قبوله قبول الحق ورده رد الحق {لا يتناهون عن منكر} سمى العصيان منكرًا لأنه يوجب النكرة كما سمى الطاعة معروفًا لأنها توجب المعرفة {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا}. يعني أن تعارف الأرواح يُوجب ائتلاف الأشباح، فالنصارى ببركة علمائهم وعبادهم وصفاء قلوبهم وخضوعهم ثبت لهم القرابة والمودة من أهل الإيمان وعرفوا الحق الذي سمعوه في الازل يوم الميثاق، فآمنوا وذلك جزاء المحسنين الذين يعبدون الله ويشاهدونه بلوائح المعرفة وطوالع المحبة فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه. اهـ.

.قال الألوسي:

ومن باب الإشارة في بعض ما تقدم من الآيات: {يا أيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} ذهب كثير من ساداتنا الصوفية إلى أن هذا أمر منه عز شأنه أن يبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم ما أنزل إليه ما يتعلق بأحكام العبودية ولم يأمره جل جلاله بأن يعرف الناس أسرار ما بينه وبينه فإن ذرة من أسراره سبحانه لا تتحملها السموات والأرض، وهذه الأسرار هي المشار إليها بقوله تعالى: {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} [النجم: 10].
ولهذا قال سبحانه: {أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} ولم يقل ما خصصناك به أو ما تعرفنا به إليك.
وقال بعضهم وهو المنصور: إن الموصول عام ويندرج فيه الوحي والالهامات والمنامات والمشاهدات وسائر المواهب، والرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بتبليغ كل ذلك إلا أن مراتب التبليغ مختلفة حسب اختلاف الاستعدادات فتبليغ بالعبارة وتبليغ بالإشارة وتبليغ بالهمة وتبليغ بالجذبة إلى غير ذلك فسبحان من أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] بما أودع فيك من أسرار الألوهية فلا يقدرون أن يوصلوا إليك ما يقطعك عن الله تعالى، وقريب من ذلك ماقيل: يعصمك منهم أن يكون لك بهم اشتغال، وقيل: يعصمك من أن ترى لنفسك فيهم شيئًا بل ترى الكل منه سبحانه وبه {قُلْ يا أهل أَهْلِ الكتاب لَسْتُمْ على شيء} يعتدُّ به {حتى تُقِيمُواْ التوراة} فتعطوا الظاهر حقه وتعملوا بالشريعة على الوجه الأكمل مع توحيد الأفعال {والإنجيل} فتعطوا الباطن حقه وتعملوا بالطريقة على الوجه الأتم مع توحيد الصفات {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ} فتعطوا الحقيقة حقها وتشاهدوا الكثرة في عين الوحدة والوحدة في عين الكثرة ولا تحجبكم الكثرة عن الوحدة ولا الوحدة عن الكثرة {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْرًا} [المائدة: 68] لجهلهم به وقلة استعدادهم لمعرفة أسراره.
وعن بعد السادة قدس الله تعالى أسرارهم أن القرآن المنزل على النبي المرسل صلى الله عليه وسلم ذو صفتين: صفة قهر وصفة لطف فمن تجلى له القرآن بصفة اللطف يزيد نور بصيرته بلطائف حكمته وحقائق أسراره ودقائق بيانه ويزيد بذلك نور إيمانه وتوحيده ويعرف بذلك ظاهر الخطاب وباطنه، ومن يتجلى له بصفة القهر تزيد ظلمة طغيانه وينسد عليه باب عرفانه بحيث لا يدرك سر الخطاب فتكثر عليه الشكوك والأوهام، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] وقوله سبحانه: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26] وشبه بعضهم ذلك بنور الشمس فإنه ينتفع به من ينتفع ويتضرر به الخفاش ونحوه.
ومن ذلك كتب كثير من الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فإنه قد هدى بها أرباب القلوب الصافية وضل بها الكثير حتى تركوا الصلاة واتبعوا الشهوات وعطلوا الشرائع واستحلوا المحرمات وزعموا والعياذ بالله تعالى أن ذلك هو الذي يقتضيه القول بوحدة الوجود التي هي معتقد القوم نفعنا الله تعالى بفتوحاتهم، وقد نقل لي عن بعض من أضله الله تعالى بالاشتغال بكتب القوم ممن لم يقف على حقيقة الحال أنه لا فرق بين أن يدخل الرجل أصبعه في فمه وبين أن يدخل ذكره في فرج محرم لأن الكل واحد، وكذا لا فرق بين أن يتزوج أجنبية وبين أن يتزوج أمه أو بنته أو أخته وهذا كفر صريح عافانا الله تعالى والمسلمين منه، ومنشأ ذلك النظر في كتب القوم من دون فهم لمرادهم وما درى هذا المسكين أن مراعاة المراتب أمر واجب عندهم وأن ترك ذلك زندقة وأنهم قد صرحوا بأن الشريعة مظهر أعظم لأنها مظهر اسم الله تعالى الظاهر وأنه لا يمكن لأحد أن يصل إلى الله تعالى بإهمالها، فقد جاء عن غير واحد من العارفين الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على ما اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا رأيتم الرجل يطير في الهواء وقد أخل بحكم واحد من الشريعة فقولوا: إنه زنديق ولله در من قال خطابًا للحضرة المحمدية:
وأنت باب الله أي أمرء ** أتاه من غيرك لا يدخل

{وَلَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ} الايمان الحقيقي اليهود وذلك لقوة المباينة لأنهم محجوبون عن توحيد الصفات وتوحيد الذات ولم يكن لهم إلا توحيد الأفعال {والذين أَشْرَكُواْ} كذلك بل هم أشد مباينة منهم للمؤمنين وأقوى لأنهم محجوبون مطلقًا، وإنما قدم اليهود عليهم لأن البحث فيهم، وهذا خلاف ما عليه أهل العبارة {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى} لأنهم برزوا من حجاب الصفات ولم يبق لهم إلا حجاب الذات، وإلى هذا الإشارة بقوله سبحانه وتعالى: {ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82] حيث مدحوا بالعلم والعمل وعدم الاستكبار، وذلك يقتضي أنهم وصلوا إلى توحيد الأفعال والصفات وأنهم ما رأوا نفوسهم موصوفة بصفة العلم والعمل ولا نسبوا عملهم وعلمهم إليها بل إلى الله تعالى وإلا لاستكبروا وأظهروا العجب {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول} من أنواع التوحيد التي من جملتها توحيد الذات {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ} بالدليل وبواسطة الرياضة {مِنَ الحق} الذي أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم {يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا بذلك فاكتبنا مَعَ الشاهدين} [المائدة: 83] المعاينين لذلك {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله} جمعًا {وَمَا جَاءنَا مِنَ الحق} تفصيلًا {وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين} [المائدة: 84] الذين استقاموا بالبقاء بعد الفناء {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} من التجليات الثلاث مع علومها {وذلك جَزَاء المحسنين} [المائدة: 85] المشاهدين للوحدة في عين الكثرة بالاستقامة في الله عز وجل: {والذين كَفَرُواْ} أي حجبوا عن الذات {وَكَذَّبُواْ بآياتنا} الدالة على التوحيد {أولئك أصحاب الجحيم} [المائدة: 68] لحرمانهم الكلي واحتجابهم بنفوسهم وصفاتها والله تعالى الموفق. اهـ.

.تفسير الآية رقم (87):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما مدح سبحانه الرهبان، وكان ذلك داعيًا إلى الترهب، وكانت الرهبانية حسنة بالذات قبيحة بالعرض، شريفة في المبدأ دنية في المآل، فإنها مبنية على الشدة والاجتهاد في الطاعات والتورع عن أكثر المباحات، والإنسان مبني على الضعف مطبوع على النقائص، فيدعوه طبعه ويساعده ضعفه إلى عدم الوفاء بما عاقد عليه، ويسرع بما له من صفة العجلة إليه، فيقع في الخيانة كما قال تعالى: {فما رعوها حق رعايتها} [الحديد: 27] عقب ذلك بالنهي عنها في هذا الدين والإخبار عنه بأنه بناه على التوسط رحمة منه لأهله ولطفًا بهم تشريفًا لنبيهم صلى الله عليه وسلم، ونهاهم عن الإفراط فيه والتفريط فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي وجد منهم الإقرار بذلك {لا تحرموا} أي تمنعوا أنفسكم بنذر أو يمين أو غيرهما تصديقًا لما أقررتم به، ورغبهم في امتثال أمره بأن جعله موافقًا لطباعهم ملائمًا لشهواتهم فقال: {طيبات ما} أي المطيبات وهي اللذائذ التي {أحل الله} وذكر هذا الاسم الأعظم مرغب في ذلك، فإن الإقبال على المنحة يكون على مقدار المعطي، وأكد ذلك بقوله: {لكم} أي وأما هو سبحانه فهو منزه عن الأغراض، لا ضر يلحقه ولا نفع، لأن له الغنى المطلق.
ولما أطلق لهم ذلك، حثهم على الاقتصاد، وحذرهم من مجاوزة الحد إفراطًا وتفريطًا فقال: {ولا تعتدوا} فدل بصيغة الافتعال على أن الفطرة الأولى مبنية على العدل، فعدولها عنه لا يكون إلا بتكلف، ثم علل ذلك بقوله مؤكدًا لاستبعاد أن ينهى عن الإمعان في العبادة: {إن الله} أي وهو الملك الأعظم {لا يحب المعتدين} أي لا يفعل فعل المحب من الإكرام للمفرطين في الورع بحيث يحرمون ما أحللت، ولا للمفرطين فيه الذين يحللون ما حرمت، أي يفعلون فعل المحرم من المنع وفعل المحلل من التناول، وما ذكر من سبب نزول الآية واضح في ذلك؛ روى الواحدي في أسباب النزول بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت إلى النساء وإني حرمت عليّ اللحم، فنزلت: {لا تحرموا ما أحل الله لكم} ونزلت: {وكلوا مما رزقكم الله}[المائدة: 88]».